فصل: (مسألة: فيما يجب على المستحاضة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: رؤية الدم ساعة وساعة]

وإن رأت ساعة دمًا، وساعة نقاءً، ولم تجاوز الخمسة عشر.. نظرت ـ في الساعات ـ: فإن كانت تبلغ بمجموعها أقل الحيض.. كانت كالاتصاف على ما مضى. وإن كانت الساعات لا تبلغ بمجموعها أقل الحيض ـ بأن رأت في أول الخمسة عشر ساعة دمًا، وفي آخرها ساعة دمًا، وما بينهما طهرٌ ـ:
فإن قلنا: يلفق لها.. كان دم فساد؛ لأنه لا يتلفق منه أقل الحيض.
وإن قلنا: لا يلفق.. قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: أن الدمين وما بينهما من النقاء حيض؛ لأنا نجعل النقاء حيضا على هذا.
والثاني: أنه دم فساد؛ لأن النقاء إنما يجعل حيضا ـ على هذا القول ـ على سبيل التبع للدم، والدم لا يبلغ بمجموعه أقل الحيض، فلم يجعل النقاء تابعا له.

.[مسألة: في حكم النفاس]

وأما دم النفاس: فإنه يحرم ما يحرم الحيض، ويسقط ما يسقط الحيض؛ لأنه حيض مجتمع لأجل الحمل. فإذا ولدت المرأة، وخرج منها دم بعد الولادة.. كان نفاسًا بلا خوف. وإن خرج قبل الولادة.. لم يكن نفاسًا.
وإن كان خرج مع الولد.. فيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق، وابن القاص: هو نفاس؛ لأنه دم خرج بخروج الولد، فأشبه الدم الخارج بعده.
والثاني: ليس بنفاس؛ لأنه دم انفصل قبل انفصال الولد، فأشبه ما خرج قبله.

.[فرع: رؤية الحامل الدم]

وإن رأت المرأة الحامل الدم قبل ولادتها خمسة أيام، ثم ولدت قبل مضي أقل الطهر.. فإن الدم الذي رأته قبل الولادة ليس بنفاس، وهل هو حيض، أو دم فساد؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إنه دم فساد قولاً واحدًا؛ لأنه لما لم يكن بينه وبين النفاس طهرٌ صحيح.. كان دم فساد.
ومنهم من قال: هو على القولين ـ في أن الحامل تحيض ـ:
فإن قلنا: إنها تحيض.. كان حيضًا؛ لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل.

.[فرع: مدة النفاس]

أكثر مدة النفاس: ستون يوما، وغالبه: أربعون يومًا. وبه قال مالك، وداود، وعطاءً، والشعبي.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وأبو عبيد، والمزني: (أكثره أربعون يومًا).
وقال الحسن: أكثره خمسون يومًا.
ومن الناس من قال: أكثره سبعون يومًا.
دليلنا: أن المرجع في ذلك إلى الوجود.
وقد قال الأوزاعي: (عندنا امرأة ترى النفاس شهرين).
وليس لأقل النفاس حد، وقد تلد المرأة ولا ترى دمًا.
وقال الثوري: أقله ثلاثة أيام.
وقال أبو يوسف: أقله أحد عشر يومًا؛ ليزيد أقله على أكثر الحيض.
دليلنا: أن المرجع فيه إلى الوجود. وقد روي: «أن امرأة ولدت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تر دمًا، فسميت: ذات الجفوف».
وروى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا طهرت المرأة حين تضع.. صلت».
وإن ولدت ولدين توأمين، ورأت بينهما الدم.. فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعتبر أول النفاس وآخره بالولد الأول. وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف؛ لأنه يقع عليه اسم الولد، فأشبه إذا كان وحده.
والثاني: أنه يعتبر أول النفاس وآخره بالثاني.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الولدين في حكم الولد، ألا ترى أن الزوج لا يملك نفي أحدهما دون الآخر، ولا تنقضي عدتها إلا بوضعهما؟
والثالث: أنه يعتبر ابتداء المدة من الأول، ثم تستأنف المدة من الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب في إثبات حكم النفاس إذا انفرد، فإذا اجتمعا.. ثبت لكل واحد منهما نفاس، وتدخلا فيما اجتمعا فيه، كالوطء بالشبهة في العدة.

.[فرع: رؤية دم النفاس ساعة بعد ساعة]

إذا ولدت المرأة ورأت ساعةً دمًا، وساعةً طهرًا، ولم تجاوز الستين. أو رأت يومًا دمًا، ويومًا طهرًا، ولم تجاوز الستين.. فإن الدَم نفاسٌ، وفيما بينهما من النَقاء القولان في التَلفيق.
وإن رأت ساعةً دمًا، ثمَ طهرت أربعة عشر يومًا، ثمَ رأت يومًا وليلةً دمًا.. فالدَمان: نفاسٌ، وفي ما بينهما من النَقاء القولان في التلفيق.
وإن رأت ساعةً دمًا، ثمَ طهرت خمسة عشر يومًا ثمَ رأت يومًا وليلةً دمًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الدَم الأول نفاسٌ، والثاني حيضٌ، وما بينهما طهرٌ. وبه قال أبو يوسف، ومحمَدٌ؛ لأن الدمين قد فصل بينهما طهرٌ صحيحٌ، فلم يضمَ أحدهما إلى الآخر، كالحيضتين.
والثاني ـ وبه أبو حنيفة ـ: أن الدمين نفاسٌ، وما بينهما من النَقاء على القولين في التلفيق؛ لأنهما وجدا في زمان إمكان النفاس، فهو كما لو كان بينهما أقل من خمسة عشر يومًا. ويفارق الحيضتين؛ لأن الثاني لا يمكن ضمه إلى الأول.
وقال أحمد: (الأول نفاسٌ. والثاني مشكوكٌ فيه، فتصوم وتصلي، ولا يأتيها زوجها، وتقضي الصوم والصلاة؛ لأنه يحتمل أنه نفاسٌ، ويحتمل أنه دم فسادٍ) وهذا ليس بصحيح؛ لأنه دم في زمان الإمكان، فكان نفاسًا. وإن رأت ساعة دمًا، ثمَ طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت ساعةً دمًا:
فإن قلنا في الأولى: إنهما نفاسٌ.. فها هنا مثله.
وإن قلنا في الأولى: إن الثاني حيضٌ.. فخرج أبو العباس في هذه وجهين:
أحدهما: أنه نفاسٌ ـ وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ـ لأنه ينقص عن أقل الحيض.
والثاني: أنه دم فساد ـ وهو قول زفر، ومحمد ـ لأنه لا يمكن أن يكون حيضًا؛ لأنه دون أقله، ولا يمكن أن يكون نفاسًا؛ لأن بينهما طهرًا صحيحًا.
قال أبو العباس: فإذا قال لامرأته الحامل: إذا ولدت فأنت طالقٌ. فولدت.. طلقت. فإذا أخبرت بانقضاء العدة.. فكم القدر الذي يقبل قولها فيه؟
إن قلنا: إن الدم إذا عاودها بعد الطهر يكون حيضًا.. فأقل مدة تنقضي عدتها فيها سبعة وأربعون يومًا وجزءان؛ لأنه يمكن أن تضع قبل المغرب بجزء ترى فيه الدم، فيكون نفاسًا، ثم تطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تطعن في الحيض، فتنقضي عدَتها.
والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يقبل قولها ـ على هذا ـ في سبعة وأربعين يومًا وجزء؛ لأنها قد تلد ولا ترى دمًا، فتكون في القُرءِ الأول عقيب الولادة.
وإن قلنا: إن الدم إذا عاودها في مدة الستين كان نفاسًا.. فأقل مدة تنقضي بها عدتها اثنان وتسعون يومًا وجزءٌ؛ لأن الستين لا يمكن أن يحصل فيها إلا طهرٌ واحدٌ ثم تحيض بعد الستين يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تحيضُ يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تطعنُ في الحيض، فتنقضي به عدتها.

.[فرع: انقطاع النفاس لدون أربعين]

وإذا انقطع دم النفاس لدون أربعين يومًا.. لم يكره وطؤها.
وقال أحمد (يكره وطؤها). وروي ذلك عن علي، وابن عباس.
دليلنا: أنها حالة يجب عليها الصلاة، فلم يكره وطؤها فيها كما لو انقطع لأربعين يومًا.

.[فرع: إن جاوز النفاس الستين]

وإذا جاوز دم النفاس ستين يومًا.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أن الاستحاضة قد دخلت في النفاس.
فعلى هذا: تُردُ إلى التمييز إن كانت مميزة، أو إلى العادة إن كانت معتادةً.
وإن كانت مبتدئة لا تمييز لها.. فاختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: نردُها إلى أقل النفاس، وهو: لحظة.
وقال سائر أصحابنا: هي على قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: تردُ إلى غالب النفاس، وهو: أربعون يومًا، كما قلنا في الحيض إن جاوز أكثره.
والوجه الثاني: أن الستين تكون نفاسًا، وما زاد عليها استحاضةً.
والفرق بين النفاس والحيض: أن النفاس يُعلم وجوده قطعًا؛ لأنه يخرجُ عقيب الولد، فلم يجز أن ينتقل عن النفاس إلى الاستحاضة إلا باليقين، وهو: مجاوزة الدَم الستين، بخلاف الحيض؛ لأنا إنما نحكم بكونه حيضًا من حيث الظاهر، لا بالقطع واليقين، فجاز أن ينتقل عنه من غير قطع.
والوجه الثالث ـ ذكره ابن القطان ـ: أن الستين نفاسٌ، وما زاد عليها حيضٌ؛ لأنهما لا يتنافيان. والأول أصح.

.[فرع: ولدت في وقت حيضها ولم تتغير عادتها]

ذكر أبو إسحاق المروزي في (النفاس) مسألتين:
إحداهما: إذا كانت المرأة تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يومًا.. فهذه شهرها عشرونَ يومًا، فلما كانت في بعض الشهور ولدت في وقت حيضها، ورأت عشرين يومًا دمًا، ثم طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت الدم بعد ذلك، وعبر الخمسة عشر.. فهذه لم تتغير عادتها في حيضها وطهرها. فتكون نفاسًا في مدة العشرين، وطاهرًا في مدة الخمسة عشر، ونحيضها بعد ذلك خمسة أيام، وتكون طاهرًا خمسة عشر يومًا، وعلى هذا أبدًا.
الثانية: إذا كانت عادتها أن تحيض عشرة أيامٍ، وتطهر عشرين يومًا.. فهذه شهرها ثلاثون يومًا.
فإن ولدت في وقت حيضها، ورأت عشرين يومًا دما وانقطع، وطهرت شهرين، ثم رأت الدم بعد ذلك، وزاد على خمسة عشر يومًا.. فهذه لم تتغير عادتها في الحيض، ولكن زاد الطهر فصار شهرين، بعد أن كان عشرين يومًا، وتكون نفساء في مدة العشرين الأولى، وطاهرًا في الشهرين بعدها، وحائضًا عشرة أيام بعدها، ويكون طهرها بعد ذلك شهرين.
قال ابن الصباغ: وهذا يجيء على قول من لا يعتبر تكرار العادة.

.[مسألة: فيما يجب على المستحاضة]

يجب على المستحاضة ـ إذا أرادت أن تصلي ـ: أن تغسل فرجها، وتحتشي؛ لترد الدم.
فإن كان الدمُ يسيرًا، وإذا أدخلت قطنةً أو خِرقةً حبستهُ.. فعلت ذلك.
وإن لم ينقطع بذلك.. (تلجَمت): وهو أن تأخذ قطنةً أو خرقةً وتسدَ بها فرجها، وتأخذ خرقةً مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخذيها، وتشدها على تلك القطنة، وتخرج أحد طرفيها إلى بطنها، والآخر إلى صلبها، ثم تشدَ أحد الطرفين بالآخر إلى خاصرتها اليمنى، وأحد الطرفين المشقوقين بالآخر إلى خاصرتها اليسرى.
وهذا هو الاستثفار المذكور في الخبر، مأخوذ من: ثفر الدابة تحت ذنبها. وهكذا يفعل بالميت إذا غُسل.
والدليل على هذا: ما روي في «حديث حمنة بنت جحش: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب بالدم، فقالت: هو أشد من ذلك، فقال: اتخذي ثوبًا، فقالت: هو أشد من ذلك، إنما أثج ثجًا، فقال: تلجمي» ولا يجب على المستحاضة غير المتحيرة إلا غسل واحد، عندما يحكم لها بانقطاع دم الحيض، وإنما يجب عليها الوضوء. وروي ذلك عن علي، وعائشة وابن مسعود، وابن عباسٍ.
وروي عن ابن عمر، وابن الزبير: أنهما قالا: (يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة). وقد روي ذلك أيضًا عن عليٍ، وابن عباس.
وروي ـ أيضًا ـ عن عائشة: أنها قالت: (تغتسل لكل يومٍ غسلاً واحدًا).
وقال ابن المسيب، والحسن: تغتسل من طهرٍ إلى طهرٍ، وتتوضأ لكل صلاةٍ.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن فاطمة بنت أبي حبيس استحيضت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت، وإن قطر الدم على الحصير».
وإذا استوثقت بالشد على ما ذكرناه وتوضأت، فخرج منها الدم قبل الدخول في الصلاة، أو في حال الصلاة، فإن كان لرخاوةٍ في الشد.. وجب إعادة الشد والطهارة. وإن كان ذلك لغلبة الدم وقوته.. لم يجب عليها إعادة الشد والطهارة، ولا تبطل الصلاة؛ لما ذكرناه في حديث فاطمة ابنة أبي حبيشٍ، ولأنه لا يمكن الاحتراز منه.
وإن توضأت المستحاضة.. ارتفع حدثها السابق. وأما حدثها الموجود حال الطهارة والطارئ.. فلا يرتفع ذلك، ولكن يعفى عنه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة" ق \ 15] هل يرتفع حدثها؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: لا يرتفع حدثها.. فكيف تنوي بطهارتها؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنها تنوي استباحة الصلاة، ولا تنوي رفع الحدث؛ لأنه لا يرتفع.
والثاني: قال الخضريُ: تجمع في نيتها بين رفع الحدث، واستباحة الصلاة.

.[فرع: لا تجمع المستحاضة بالوضوء أكثر من فرض]

ولا يجوز للمستحاضة أن تصلي بالوضوء أكثر من فريضةٍ واحدةٍ، وما شاءت من النوافل، سواء كان ذلك في وقت، أو في وقتين.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يجوز لها أن تجمع بين فريضتين في وقت واحد، وتبطل طهارتها بخروج وقت الصلاة).
وقال ربيعة، ومالك: (لا وضوء على المستحاضة).
وقال الأوزاعي، والليث: (تجمع في طهاراتها بين الظهر والعصر).
دليلنا: ما ذكرناه من حديث فاطمة ابنة أبي حبيش.
ولا تصح طهارتها إلا بعد دخول الوقت.
وقال أبو حنيفة: (تصح).
دليلنا: أنها طهارة ضرورةٍ، ولا ضرورة بها إلى الطهارة قبل دخول الوقت.
وهل يجب عليها حل العصابة، وغسل الفرج عند الصلاة الثانية؟
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 44] ينظر فيها: فإن كانت العصابة قد تحركت من موضعها.. وجب غسلها، وإن لم تتحرك من موضعها.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنه يجب عليها ذلك، كما يجب عليها الوضوء.
والثاني: لا يجب. والفرق بينهما: أنه قد تؤمر بالطهارة عن الحدث وإن لم يرتفع، ولا تؤمر بإزالة النجاسة إذا لم تزل بالغسل.

.[فرع: حكم الولاء بين الطهارة والصلاة]

إذا توضأت المستحاضة بعد دخول الوقت.. فالأولى: أن تصلي عقيب الطهارة.
فإن أخرت الصلاة إلى آخر الوقت أو وسطه، فإن كان لسبب يعود إلى مصلحة الصلاة، كانتظار الجماعة، وستر العورة، وما أشبهه.. جاز ذلك.
وإن أخرتها لغير ذلك.. فهل تصح صلاتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وعليها أن تستأنف الطهارة؛ لأنه لا حاجة بها إلى ذلك.
والثاني: يجوز؛ لأنه قد جوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت، فلا يضيق عليها.
وإن خرج الوقت قبل أن تصلي به الفرض.. فهل لها أن تصلي الفرض بتلك الطهارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها غير معذورة في ذلك.
والثاني: يجوز، لأن طهارتها لا تبطل ـ عندنا ـ بخروج الوقت.
فإذا صلت الفريضة بوقتها.. فلها أن تتنفل بها ما شاءت؛ لأن النوافل تكثر، فلو ألزمناها: أن تتوضأ لكل صلاة نافلة.. شق وأدى إلى قطعها.
فإذا خرج وقت الفريضة.. فهل لها أن تتنفل بتلك الطهارة؟ فيه وجهان.

.[فرع: انقطاع دم المستحاضة]

إذا انقطع دم المستحاضة.. نظرت: فإن كان قبل الدخول في الصلاة:
فإن كان انقطاعًا غير معتاد، بأن كان أول ما استحيضت، فتوضأت ودمها سائل، ثم انقطع.. قال الشيخ أبو حامد: فلا خلاف على المذهب: أنه يجب عليها إعادة الوضوء إذا أرادت أن تصلي؛ لأن هذا الانقطاع يجوز أن يكون لزوال الاستحاضة، فتبطل لذلك طهارتها. ويجوز أن يكون ليعود، فلا تبطل، إلا أن الظاهر أنه لا يعود.
فإن خالفت ودخلت في الصلاة من غير تجديد طهارة، فإن اتصل الطهر.. لم تصح صلاتها.
وإن عاودها الدم، فإن كان بين معاودة الدم وانقطاعه مدة يمكن فيها فعل الصلاة.. لم تصح صلاتها؛ لأنه قد أمكنها فعل الصلاة من غير نجاسةٍ.
وإن كان بينهما مدة لا يمكن فيها فعل الصلاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليها إعادة الصلاة؛ لأنا تيقنا بعود الدم أن الانقطاع لا حكم له.
والثاني: يجب عليها الإعادة، وهو الأصح؛ لأنها حال ما دخلت في الصلاة، دخلت بطهارة مشكوك فيها، فيلزمها إعادتها، وإن تيقنت أن طهارتها كانت صحيحة، كما لو استفتح لابس الخف الصلاة بعد أن مسح يومًا وليلة، وهو يشك: هل ابتدأ المسح في الحضر أو في السفر، ثم بان له أنه ابتدأ المسح في السفر.
وإن كان انقطاع دمها معتادًا، مثل: أن تستمر عادتها بأن ينقطع دمها ساعةً، ثم يعود، ثم ينقطع، فإن كانت مدة الانقطاع في عادتها مما يمكن فيها فعل الطهارة والصلاة.. فعليها: أن تعيد الطهارة والصلاة.
قال ابن الصباغ: وليس لها أن تتوضأ في حال جريان الدم، بل عليها أن تنتظر حال انقطاعه، ما لم يخرج الوقت. فإن توضأت في المدة التي جرت عادتها أن الانقطاع يتسع لفعل الطهارة والصلاة، ثم دخلت في الصلاة، ثم عاد الدم في حال الصلاة.. قال أبو العباس: فهذا حدث ثانٍ، فتبطل طهارتها بوجوده، ويلزمها الخروج من الصلاة، واستئناف الطهارة. وهل يلزمها استئناف الصلاة؟
فيه قولان كالقولين فيمن يسبقه الحدث في الصلاة؛ لأن خروج الدم عنها بغير اختيارها، كالصحيح إذا سبقه الحدث في الصلاة.
وإن كانت مدة الانقطاع يسيرة لا تتمكن فيها من فعل الصلاة والطهارة.. فهو كما لو كان الدم متصلاً.
قال أبو العباس: وهكذا إذا كانت مبتدأة وانقطع دمها، وعلمت أن هذا الانقطاع لا يتصل، لكنه يعود الدم. أو كان به جرح يسيل منه الدم فانقطع، فأخبره أهل البصر بالطب: بأن هذا الانقطاع لا يتصل، بل يعود.. فهو كما لو لم ينقطع. ولها أن تصلي مع هذا الانقطاع.
فإن اتصل بها الطهر.. فإنه يجب عليها إعادة الصلاة وجهًا واحدًا؛ لأنا إنما أجزنا الصلاة بالطهر الأول ظنا أن الدم يعود، فإذا لم يعد.. تيقنا الخطأ فيما ظنناه.
وإن توضأت المستحاضة، ودخلت في الصلاة، فانقطع دمها في حال الصلاة، فإن كانت قد جرت عادتها بأن دمها ينقطع ويعود، وبين وقت انقطاعه وعوده مدة لا تتمكن فيها من الطهارة والصلاة.. لم تبطل صلاتها بهذا الانقطاع؛ لأن وجوده كعدمه.
وإن كانت قد جرت عادتها بأن دمها ينقطع، ويعود بعد مضي مدة تتمكن فيها من فعل الطهارة والصلاة. أو كان هذا الانقطاع لم تجر لها به عادةٌ، والظاهر أنه لا يعود الدم.. فهل تبطل صلاتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تبطل صلاتها، كالمسافر إذا عدم الماء فتيمم، ثم وجد الماء بعد الدخول في الصلاة.
والثاني: تبطل صلاتها، وهو الصحيح؛ لأن عليها طهارة حدث، وطهارة نجس، ولم تأت عن طهارة النجس بشيء، وقد قدرت عليها، فلزمها الإتيان بها.
وتفارق المتيمم؛ لأنه قد أتى عن الطهارة بالماء بما هو بدل عنها، فجاز له استدامة التيمم مع وجود الماء. وطهارة المستحاضة قد بطلت بانقطاع الدم، وإذا بطلت الطهارة.. بطلت الصلاة.

.[فرع: وطء المستحاضة]

يجوز للزوج وطء زوجته المستحاضة وإن كان الدم جاريًا.
وقال الحكم، وابن سيرين، والنخعي: لا يجوز له وطؤها.
وبه قال أحمد، إلا أن يخاف على نفسه العنت.
دليلنا: ما روي: (أن حمنة بنت جحش كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وأم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن، وكانتا مستحاضتين، وكانا يجامعان).
والظاهر أنه لا يخفى ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه قد بين سائر أحكامها ولم يذكر الوطء، فدل على جوازه.

.[فرع: صاحب السلس]

ومن به سلس البول والمذي.. حكمه حكم المستحاضة في الشد، والوضوء لكل صلاة؛ لأن ذلك من نواقض الوضوء، فهو كالاستحاضة.
وأما من به جرح لا ينقطع منه الدم أو القيح.. فإنه بمنزلة المستحاضة في وجوب غسله، وشده عند كل صلاةٍ؛ لأنها نجاسة متصلة لعلة، فهو كالمستحاضة.
وأما الوضوء لكل صلاة: فلا يجب عليه. وبالله التوفيق.

.[باب إزالة النجاسة]

أبوال بني آدم وذروقهم نجسةٌ، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن داود: أنه قال: (بول الغلام الذي لم يطعم الطعام طاهرٌ).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه». ولم يفرق.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان بكبيرةٍ، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستنزه من البول».
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمارٍ: «إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء».
وأجمعت الأمة على نجاسة الغائط.
وأما أبوال البهائم وأرواثها: فهي نجسةٌ ـ عندنا ـ سواءٌ في ذلك ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه. وبه قال ابن عمر، والأوزاعي، وهذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال صاحب "الإبانة" [ق \ 68] في بول ما لا نفس له سائلةٌ، وروثه وجهان، بناء على الوجهين في: أنه هل ينجس بالموت؟
وقال النخعي: أبوال البهائم كلها طاهرةٌ.
وقال مالكٌ والزهري، والثوري، وأحمد: (بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهرٌ).
وحكى صاحب "الفروع": أن هذا وجه لبعض أصحابنا؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على الجمل) فلولا أن بوله وروثه طاهرٌ.. لما طاف عليه خشية أن ينجس المسجد.
وقال أبو حنيفة: (الكل نجسٌ، إلا ذرق الحمام، والعصافير، وما لا يمكن الاحتراز منه.. فإنه طاهرٌ؛ لأن العسل ذرق النحل، وهو طاهرٌ).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]. فامتن الله علينا بأن أخرج لنا لبنًا طاهرًا يحل شربه من بين نجسين: الفرث، والدم.
وروي: «أن ابن مسعود أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجرين وروثةٍ؛ ليستنجي بذلك، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: إنها ركسٌ».
و (الركس): الرجيع وهذه العلة تعم جميع ما ذكرناه.
وأما طواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجمل؛ فلأنه حمل أمره: على السلامة، وأنه لا يبول ولا يبعر. كما حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة وحمل أمرها على: أنها لا تبول ولا تتغوط. ثم لا يدل ذلك على: أن بولها وغائطها طاهرٌ.
وأما قوله: إن العسل ذرق النحل.. فغير صحيح؛ لأنه قد قيل: إن النحل تعسل بأفواهها، وقيل: لا يكاد يعرف منها حقيقة؛ لما روي: أن سليمان بن داود - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أراد أن يعرف حقيقة ذلك، فاتخذ آنية من زجاج، وجعلها فيها؛ ليعرف كيف تعسل.. فلطخت وجه الآنية بالطين حتى لم يرها كيف تعسل.
والقيء نجس؛ لحديث عمار، ولأنه طعام استحال في الجوف، فكان نجسًا، كالغائط.
والبلغم الخارج من المعدة نجسٌ.
وقال أبو حنيفة: (هو طاهرٌ).
دليلنا: أنه طعام أحالته الطبيعة فكان نجسًا، كالسوداء والصفراء.